مختارات في النقد: الفلسطينيّون في سوريّة | فصل

غلاف كتاب «مختارات في النقد» لمصلح كناعنة.

 

صَدَر عن «دار الشروق» كتاب «مختارات في النقد»، للكاتب الفلسطينيّ مصلح كناعنة. يحتوي الكتاب على ثلاثين مقالًا مختارًا من بين عشرات المقالات الّتي كتبها كناعنة خلال الأعوام الأخيرة، في النقد الأدبيّ، تتناول مؤلّفات منشورة في الفكر والأدب، باستثناء المقالين الأخيرين في النقد الفنّيّ.

في هذا الفصل الّذي تنشره فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، بإذن من الكاتب، يتحدّث الكاتب عن كتاب «الفلسطينيّون في سوريّة» (2020)، للأكاديميّة والباحثة أناهيد الحردان.

 


 

’الفلسطينيّون في سوريّة‘... بين الابنة والوالد

 

إنّ كتاب «الفلسطينيّون في سوريّة» الّذي أصدرته «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة» في بيروت في آب (أغسطس) 2020، هو النسخة العربيّة المترجمة للكتاب الّذي صدر بالإنجليزيّة، عن «منشورات جامعة كولومبيا» في أمريكا في عام 2016، والّذي تقاسم مع كتاب آخر «جائزة الكِتاب الأكاديميّ» من «جمعيّة جوائز كتّاب فلسطين» في لندن. الكتاب نسخة منقّحة عن الأطروحة الّتي تقدّمت بها الباحثة الفلسطينيّة أناهيد الحردان؛ للحصول على لقب الدكتوراة في «علم الاجتماع» من «كلّيّة ترنيتي» في «جامعة دبلين» في إيرلندا، في عام 2013. والدكتورة أناهيد الحردان كانت، حتّى كتابة هذه السطور، محاضرة في «علم الاجتماع» في «الجامعة الأمريكيّة» في بيروت.

ومع أنّ هذا الكتاب هو أطروحة أكاديميّة علميّة، حافلة بالنقاشات النظريّة، وبالتحليل العلميّ الدقيق لمفهوم النكبة، وما طرأ عليه من تحوّلات في الفكر العربيّ والخطاب الأكاديميّ الفلسطينيّ، وكذلك لمنهجيّات جمع التاريخ الشفويّ حول النكبة الفلسطينيّة، ومحاولات تجييرها سياسيًّا في سياق الخطاب السياسيّ الوطنيّ الفلسطينيّ، وللمركزيّة الأوروبّيّة الّتي تهيمن على دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؛ على الرغم من ذلك، فإنّ هذا الكتاب يعتمد في الأساس على مادّة وصفيّة إثنوغرافيّة مسرودة بأسلوب سهل وسلس، مستمدّة عن طريق الاقتباس المباشر من المقابلات المكثّفة الّتي أجرتها الباحثة مع عدد كبير من أبناء الأجيال الأوّل والثاني والثالث، من اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّم اليرموك في دمشق، وبهذا المعنى فهو الكتاب الأكاديميّ الوحيد، الّذي يعطي تجسيدًا واقعيًّا حيًّا للمعاناة الإنسانيّة الناجمة عن النكبات الكارثيّة المتلاحقة، الّتي تعرّض لها اللاجئون الفلسطينيّون في سوريّة جيلًا بعد جيل. وكم هو مؤثّر ومحزن حين تسوق إليك الكاتبة اقتباسًا من مقابلة أجرتها مع شابّ فلسطينيّ في مخيّم اليرموك في عام 2008، يتحدّث فيه عن نكبة فلسطين عام 1948، ثمّ تذكر في التوثيق تحت الاقتباس بخطّ صغير أنّه "مات في السجن تحت التعذيب في عام 2013!" (ص 11).

الكتاب يعتمد في الأساس على مادّة وصفيّة إثنوغرافيّة (...) مستمدّة عن طريق الاقتباس المباشر من المقابلات المكثّفة الّتي أجرتها الباحثة مع عدد كبير من أبناء الأجيال الأوّل والثاني والثالث، من اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّم اليرموك...

هنا نأتي إلى بيت القصيد؛ فالمترجم الّذي نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة هو الشاعر والروائيّ والباحث الفلسطينيّ محمّد الأسعد، الّذي فارقنا ورحل عن هذه الدنيا في 21 أيلول (سبتمبر) 2021. ومحمّد الأسعد هو لاجئ فلسطينيّ من قرية أمّ الزينات على سفح جبل الكرمل، كان طفلًا في الرابعة من عمره، حين هُجِّر مع أهله من فلسطين إلى البصرة في العراق في عام 1948، ثمّ انتقل منها إلى الكويت، حيث عمل في الصحافة، ومنها إلى قبرص، ثمّ بلغاريا؛ ليستقرّ به المقام أخيرًا في الكويت حيث عاش بقيّة عمره.

للأستاذ الراحل محمّد الأسعد ستّة دواوين شعريّة نُشِرَ بعض قصائده بالإنجليزيّة من «جامعة كولومبيا الأمريكيّة» في عام 1989 وعام 1992، تحرير د. سلمى الجيّوسي، وعدد من الروايات والأعمال القصصيّة، أهمّها على الإطلاق رواية «أطفال الندى» الّتي نشرتها «دار رياض الريّس» في لندن في عام 1990، ثمّ صدرت بالفرنسيّة واليونانيّة والبرتغاليّة والعبريّة في سنوات لاحقة، وهي نوع من السيرة الذاتيّة يسرد فيها المؤلّف قصّة الاقتلاع والتهجير من أمّ الزينات في نكبة 1948. وله أيضًا مقالات نقديّة في اللغة الشعريّة، وفي الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، و«بحثًا عن الحداثة» وهو محاولة رياديّة جادّة لتطوير النسخة العربيّة من منهج النقد الثقافيّ، الّذي طرحه إدوارد سعيد في كتاب «الاستشراق» في عام 1978، و«مستشرقون في علم الآثار: كيف قرؤوا الألواح وكتبوا التاريخ»، وهو بحث في منتهى العمق والثراء للكشف عن النزعة الاستشراقيّة التوراتيّة الّتي هيمنت على علم الآثار (الأركيولوجيا)، ومدى الزيف والتزوير اللذين ألحقتهما هذه النزعة في كتابة التاريخ الفلسطينيّ.

لقد نُشِرت عشرات المقالات بالعربيّة واللغات الأخرى عن كتاب «الفلسطينيّون في سوريّة»، والدكتورة أناهيد الحردان كثيرًا ما تتطرّق إليه في المحاضرات الّتي تلقيها في مؤتمرات حول العالم، وكلّ هذا متوفّر على الإنترنت. ولذا؛ لا حاجة بي إلى الكتابة المستفيضة عن محتويات الكتاب ومزاياه، بصفته عملًا أكاديميًّا رائدًا في العلوم الاجتماعيّة. ما أريد أن أنوّه إليه، وأركّز عليه هنا هو حقيقة أنّ مؤلّفة الكتاب، الدكتورة أناهيد الحردان، هي ابنة مترجم الكتاب، الأستاذ الفلسطينيّ الراحل محمّد الأسعد.

تخيّلوا. هذا الكاتب والشاعر والباحث والمفكّر الفلسطينيّ العملاق، قضى السنوات الأخيرة من حياته وهو يترجم عن الإنجليزيّة أطروحة الدكتوراة لابنته، وهو الّذي كان قد ترجم مسرحيّة «بعد السقوط» لآرثر ميلر (1998)، ودراسة عن جماليّات شعر الهايكو للكاتب اليابانيّ كينيث ياسودا (1999)، ومجموعة محاضرات الفيلسوف الإيطاليّ إيتالو كالفينو (1999)، ثمّ يكرّس أعوامه الأخيرة لترجمة أطروحة ابنته، عن النكبة واللجوء واللاجئين الفلسطينيّين في سوريّة.

كلّ هذا الحبّ من أب إلى ابنته، كلّ هذا الفخر والاعتزاز بها، كلّ هذا التماهي معها في مسيرتها العلميّة والفكريّة والإنسانيّة، كلّ هذا الإيمان بمقدراتها وذكائها ومثابَرتها، كلّ هذا الاحترام والحبّ والتقدير، من أب فلسطينيّ مقتلَع مشرّد، كرّس حياته لفضح الظلم وإحقاق الحقّ بكلّ الوسائل الممكنة، نحو ابنته الّتي تنطلق في أوّل الطريق نحو مشروع فكريّ أكاديميّ؛ لفضح الظلم والزيف، وإحقاق الحقّ والعدل، ووضع التاريخ في نصابه الصحيح. إنّه لأمر يلامس شغاف القلب، وتعجز الكلمات عن وصفه.

"لقد كان التصدّي للبحث عن ذكريات النكبة مسعًى شخصيًّا بأعمق معنًى؛ فأنا نفسي إحدى حفيدات النكبة، شُرِّدَت عائلتي في سنة 1948 مثل كلّ العائلات الفلسطينيّة المشرّدة، ولديها تاريخ من معاناة تشريد عنيف...".

أستميح صديقتي الدكتورة أناهيد الحردان عذرًا لتركيزي على هذه الجزئيّة الحميميّة، الّتي لم يتطرّق إليها أحد من قبل، ولا تحبّ هي نفسها أن تذكرها أبدًا، على الرغم من أنّها ذكرت في تقديمها للكتاب أنّ رواية «أطفال الندى» هي الّتي أطلقتها "في هذه الرحلة، بطرق عديدة لا يمكن تخيّلها" (ص 9)، وهي الّتي أوردت في المقدّمة هذه الفقرة الّتي أغبطها عليها:

"لقد كان التصدّي للبحث عن ذكريات النكبة مسعًى شخصيًّا بأعمق معنًى؛ فأنا نفسي إحدى حفيدات النكبة، شُرِّدَت عائلتي في سنة 1948 مثل كلّ العائلات الفلسطينيّة المشرّدة، ولديها تاريخ من معاناة تشريد عنيف. هذا التشريد بدأ مع فقدان أمّ الزينات؛ إحدى قرى جبل الكرمل التابعة لقضاء حيفا، وقد مُحِيَت عن وجه الأرض في ما بعد... ولم تنتهِ قصّة النكبة بالنسبة إلى عائلتي، كما بالنسبة إلى أغلبيّة العائلات الفلسطينيّة الّتي تحوّلت إلى عائلات لاجئين حتّى الجيلَين الرابع والخامس، بمجرّد انتهاء سنة 1948، وإنّما تكرّر التشريد والتهجير نتيجة الحِرمان من الانتماء إلى الوطن، وعدم تطبيق حقّنا في العودة إلى ما أصبح يُدْعى دولة إسرائيل". (ص 2).

إنّني لا أستطيع أن أمنع ذهني من تخيّل الأستاذ محمّد الأسعد، وهو يترجم هذه الفقرة الّتي كتبَتها ابنته، في مقدّمتها لأطروحة الدكتوراة عن الفلسطينيّين في سوريّة، وعن مفهوم النكبة الفلسطينيّة ومدلولها وتجسّداتها.

 


 

مصلح كناعنة

 

 

 

كاتب وباحث أنثروبولوجيّ متخصّص بالتراث الشعبيّ الفلسطينيّ.